سورة الأنبياء - تفسير تفسير الشعراوي

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
تفسير السورة  
الصفحة الرئيسية > القرآن الكريم > تفسير السورة   (الأنبياء)


        


{لَا تَرْكُضُوا وَارْجِعُوا إِلَى مَا أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَمَسَاكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ(13)}
الحق سبحانه وتعالى في قصة هؤلاء المكذِّبين قدَّم الغاية من العذاب، فقال: {وَكَمْ قَصَمْنَا مِن قَرْيَةٍ...} [الأنبياء: 11] ثم فصَّل القَصمْ بأنهم لما أحسًّوا العذاب تركوا قريتهم، وأسرعوا هاربين أنْ يلحقهم العذاب، وهنا يقول لهم: لا تركضوا وعودوا إلى مساكنكم، وإلى ما أُترِفْتم فيه.
والتُّرفُ: هو التنعُّم نقول: ترف الرجل يترف مثل: فرح يفرَح أي: تنعَّم، فإذا زِيدتْ عليها همزة فقيل: أترف الرجل فمعناها: أخذ نعيماً وأبطره.
ومنها أيضاً: أترفَهُ الله يعني: غرَّه بالنعيم؛ ليكون عقاباً له.
فقوله هنا {إلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ..} [الأنبياء: 13] من أترافه الله يعني: أعطاهم نعيماً لا يؤدون حقَّه، فيجرّ عليهم العذاب. لكن ما دام أن الله تعالى يريد بهم العذاب، فلماذا يُنعِّمهم؟
قالوا: فَرْق بين عذاب واحد وعذابين: العذاب أن تُوقع على إنسان شيئاً يؤلمه، أما أن تُنعِّمه وترفعه ثم تعذبه، فقد أوقعتَ به عذاباً فوق عذاب.
وقد مثَّلْنا لذلك بأن إنْ أردت أَنْ تُوقِع عدوك لا توقعه من فوق حصيرة مثلاً، إنما ترفعه إلى أعلى ليكون أشدَّ عليه وآلمَ له.
ومن ذلك قَوْلُ القرآن {فَلَمَّا نَسُواْ مَا ذُكِّرُواْ بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ...} [الأنعام: 44] أعطيناهم الصحة والمال والجاه والأرض والدُّور والقصور {حتى إِذَا فَرِحُواْ بِمَآ أوتوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] وهكذا يكون أَخذْه أليماً شديداً، فعلى قَدْر ما رفعهم الله على قَدْر ما يكون عذابهم.
ومَلْمَح آخر في قوله تعالى: {فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ} [الأنعام: 44] لا لهم كما في: {إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحاً مُّبِيناً} [الفتح: 1] فليس هذا كله في صالحهم، بل هو وَبَال عليهم، فلا تغترُّوا بها، فقد أعطاها الله لهم، وهم سيَبَطْرون بها، فتكون سببَ عذابهم.
وقوله تعالى: {لَعَلَّكُمْ تُسْأَلُونَ} [الأنبياء: 13] أي: عودوا إلى مساكنكم وقصوركم وما كنتم فيه من النعيم، لعل أحداً يمرُّ بكم فيسألكم: أين ما كنتم فيه من النعيم؟ أين ذهب؟ لكن ما هم فيه الآن من الخزي سيُخرس ألسنتهم، ولن يقولوا شيئاً مما حدث، إنما سيكون قولهم وسلوكهم. {قَالُواْ ياويلنآ...}.


{قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ(14)}
لما أحسَّ المكذِّبون بأْسَ الله وعذابه حاولوا الهرب ليُفوِّتوا العذاب، فقال لهم: ارجعوا إلى ما كنتم فيه، فلن يُنجيكم من عذاب الله شيء، ولا يفوت عذاب الله فائت، فلما وجدوا أنفسهم في هذا الموقف لم يجدوا شيئاً إلا الحسرة فتوجَّهوا إلى أنفسهم ليقرعوها، ويحكموا عليها بأنها تستحق ما نزل بها.
فقولهم: {ياويلنآ...} [الأنبياء: 14] ينادون على العذاب، كما تقول(يا بؤسي) أو(يا شقائي) وهل أحد ينادي على العذاب أو البُؤْس أو الشقاء؟ الإنسان لا ينادي إلا على ما يُفرِح.
فالمعنى: يا ويلتي تعالى، فهذا أوانك، فلن يشفيه من الماضي إلا أنْ يتحسَّر عليه، ويندم على ما كان منه. فالآن يتحسَّرون، الآن يعلمون أنهم يستحقون العذاب ويلومون أنفسهم.
{إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14] ظالمين لأنفسنا بظلمنا لربنا في أننا كفرنا به، كما قال في آية أُخْرى: {أَن تَقُولَ نَفْسٌ ياحسرتا على مَا فَرَّطَتُ فِي جَنبِ الله...} [الزمر: 56].


{فَمَا زَالَتْ تِلْكَ دَعْوَاهُمْ حَتَّى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيدًا خَامِدِينَ(15)}
قوله تعالى: {فَمَا زَالَت تِلْكَ دَعْوَاهُمْ...} [الأنبياء: 15] أي: قولهم: {قَالُواْ ياويلنآ إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ} [الأنبياء: 14] فلم يقولوها مرة واحدة سرقة عواطف مثلاً، إنما كانت ديدنهم، وأخذوها تسبيحاً: يا ويلنا إنا كنا ظالمين، يا ويلنا إنا كنا ظالمين، فلا شيءَ يشفي صدورهم إلا هذه الكلمة يُردِّدونها. كما يجلس المرجم يُعزِّي نفسه نادماً يقول: أنا مُخطيء، أنا أستحق السجن، أنا كذا وكذا.
وقوله تعالى: {حتى جَعَلْنَاهُمْ حَصِيداً خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15] الحصيد: أي المحصود وهو الزرْع بعد جمعه {خَامِدِينَ} [الأنبياء: 15] الخمود من أوصاف النار بعد أنْ كانت مُتأجِّجة مشتعلة ملتهبة صارت خامدة، ثم تصير تراباً وتذهب حرارتها. كأن الحق سبحانه وتعالى يشير إلى حرارتهم في عداء الرسول وجَدَلهم وعنادهم معه صلى الله عليه وسلم، وقد خمدتْ هذه النار وصارتْ تراباً.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَمَا خَلَقْنَا السمآء...}.

1 | 2 | 3 | 4 | 5 | 6 | 7 | 8